شهر جبر الخواطر قصة قصيرة 3

شهر جبر الخواطر

جلست "بسنت" صاحبة الثماني سنوات بملابسها الرثة في شُرفة غُرفتها بالطابق الأرضي، تُراقب الأطفال وهم يلعبون بالفوانيس في أول أيام شهر رمضان المُبارك، ويهللون ويفرحون بقدومهُ مثل كُل عام، فنظرت لوالدتها -التي تنام على الأريكة- بحسرة لأنها لا تملك المال لتشتري لها فانوس تلعب به مع الأطفال، ووالدها يعمل طوال اليوم ليأتي لهم بطعام لا يكفي لوجبة واحدة لأسرتهُم الصغيرة.
فهبطت على الأرض وذهبت إلى أحد زوايا الغُرفة، وفتحت صندوق صغير بعد أن أزاحت التراب مِن فوق الغِطاء، وأخرجت الدُمية التي كانت تلعب بها وهي صغيرة، مُحاولة اللعب بِها للتغلب على أحزانها مِن عدم اِمتلاكها لفانوس مثل باقي الأطفال، فدمعت عيناها وألقت بالدُمية للأرض وظلت تضربها بقدميها وهي تبكي حتى تحطمت، فاستيقظت والدتها على صوت بُكائها، فهرولت "بسنت" تُحاول إيجاد مكان للاِختباء به يحميها مِن غضب والدتها فلم تجد، فهذه الغُرفة فقط هي منزلهُم وبِها بعض المنافع البسيطة.
فنظرت والدتها لها بغضب بعد أن رأت ما حدث، ولكن بعد أن ذهبت "بسنت" واِختبأت خلف ستارة دورة المياه -قطعة قماش توضع مكان الباب- وظلت تبكي؛ تأثرت الأم وهتفت تُنادي اِبنتها التي جاءتها تمشي على استحياء، فطلبت مِنها الاِقتراب، فاقتربت قليلاً فاحتضنتها وتحول الغضب لحنان جارف.
فقالت الأًم وهي تُداعب شعرها:
- لماذا فعلتي ذلك يا حبيبتي فهي لعبتك الوحيدة؟.
ورفعت الفتاة رأسها ولم تتفوه بكلمة واحدة بل نظرت للشُرفة، فنهضت الأم لتنظر للشرفة مُحاولة أن تفهم مقصد اِبنتها وشاهدت الأطفال يلهون في سعادة، ثُم جلست وعادت للحديث باِبتسامة حزينة قائِلة:
- كُل ذلك بسبب رغبتك في اللهو مع الأطفال!.
فلم ترد الفتاة، وأردفت الأُم:
- يُمكنك الخروج واللهو معهُم ولكن لا تبتعدي عن المنزل.
فابتسمت الفتاة اِبتسامة هادئة لأنها حصلت على جُزء مِمَ تتمناه.
وأثناء خروجها قالت الأُم لنفسها وهي تبكي بشدة: "أعلم يا اِبنتي بِمَ تُريدي، ولكن ليس بيدنا حيلة، فالله أعلم بِنا وهو مَن يُدبر الأمر"
وخرجت "بسنت" سعيدة لأنها وجدت أمامها صديقتها "أمل" التي رحبت بها واِستقبلتها بحضن أزال الكثير مِن همومها.
وجلست "أمل" تتحدث معها واِبتسامتها لا تُغادر شفتاها ولكنها لاحظت وجود نظرات خاطفة مِن "بسنت" للفانوس الذي تمسكهُ بيدها، فمدت يدها إلى "بسنت" قائِلة لها:
- خُذي هذا الفانوس اِلعبي به فقد تعبتُ مِن اللعب فأنا أحملهُ بيدي مُنذ الصباح.
فأشرق وجه "بسنت" كنور الصباح وظهرت السعادة بوجهها وهو ما جعل "أمل" تفرح بِمَ فعلتهُ وظلت تلعب معها وهي مُمسكة بيدها، ولكن ظهر "نادر" شقيق "أمل" والذي يكبُرها بثلاث سنوات وخطف الفانوس مِن يد "بسنت" وهو يقول بغضب:
- أترُكي هذا الفانوس فهو مِلك شقيقتي.
فصاحت بِه شقيقتهُ التي غضبت لهدمه قلب صديقتها:
- لماذا فعلت ذلك فأنا مَن قُمت بإعطائهُ لها.
فهرولت مُسرعة إلى منزلها الذي يُقابل منزل صديقتها واِختفت عن الأنظار.
وخلال دقائق ظهرت "أمل وهي تهبط درج السلم وخلفها والدتها التي ذهبت صوب اِبنها تنهره وتُصيح به قائلة:
- لماذا أدخلت نفسك بين شقيقتك وصديقتها؟ هُم فتيات لا يحق لك التدخُل بأفعالهُم طالما لم يفعلوا شيء خطأ! عليك أن تعتذر لـ"بسنت" بسبب ما سببتهُ لها مِن جرح لمشاعرها.
فلم يستطع الرد، وذهب صوب "بسنت" التي كانت تبكي بشدة ومد يده يُصافحها، فنظرت لأمه التي أومأت لها بأن تُصافحهُ فتوقفت عن البُكاء ومدت يدها وصافحتهُ، فقدم لها الفانوس مرة أخرى لتلعب به، وفجأة ظهر شخص وأبعد يده، فنظر إليه فوجد أنه عم "رجب" -صاحب محل صغير للعب الأطفال- الذي ظل يُتابع هذا الموقف مِن بعيد والذي مد يده وقدم فانوساً جديداً كان يحملهُ خلف ظهره، وقال لـ"بسنت":
- والدِك قَدم لي معروفاً في وقت سابق، وأقل شيء أرد به المعروف هو إهدائِك هذا الفانوس الذي أرجو أن يلقى قُبولِك.
فضحكت "بسنت" بصوت عالي جعلت الاِبتسامة تغزو وجه جميع مَن حولها، وهرول الأطفال نحوها يُهنئوها بفانوسها ويطلبوا أن يلعبوا معها به.

#شهر_جبر_الخواطر
#قصة_قصيرة
#3
#الروائي_محمد_عبد_العزيز_الشربيني

» عدو الفسيخ - قصة قصيرة 2